لقد شغل اضطراب التوحد الباحثين في الآونة الأخيرة، واعتبر من أكثر الإعاقات العقلية صعـوبة وتعـقـيدًا، من حيـث تأثيرها على سلوك الفرد الذي يعاني منها؛ لكونها من الاضطرابات النمائية المعقدة التي تظهر عادة خلال الثلاث سنوات الأولى من حياة الطفل نتيجة التدهور العصبي الذي يؤثر على عمل الدماغ، ويؤدي إلى قصور في مهارات اللغة ومجالات التفاعل الاجتماعي ومهارات الاتصال بصفة عامة لدى الأطفال المصابين.

وعند تتبع التطورات التاريخية لهذه الإعاقة ومحاولات تشخيصها وفصلها عن مختلف الأعراض المرضية الأخرى، نجد أن أول من وصف أعراضها ( أوغن بلولر ) (Bleuler Eugen وهو عالم وطبيب نفسي سويسري؛ حيث تناول مفهوم السلوك التوحدي لأول مرة عام 1911م بوصفه للأشخاص المصابين بأنهم معزولون عن العالم الخارجي والحياة الاجتماعية من خلال توصيف بعض أعراض التوحد .

وجاء بعده ليوكانر (Kanner Leo )في عام 1943 وهو أحد أساتذة الطب النفسي بجامعة (Harvard ) أمريكي الجنسية؛ حيث اعتبر التوحد متلازمة سلوكية تبدو في صورة أنماط سلوكية غير عادية، ثم توالت الدراسات والأبحاث المختلفة المعتمدة معظمها على الأفكار والتصورات المقدمة من (ليوكانر) حول سلوكيات وخصائص أطفال التوحد K باستثناء ريملاند (Rimland ) 1964 والذي قدم كثيرًا من الأعراض المختلفة عن (ليوكانر) من خلال قائمة رصد فيها كثيرًا من الخصائص في مختلف الجوانب حول الأنماط والسلوكيات الشاذة للتوحد مثل: الإصرار على الروتين، ونمو المهارات الخاصة بالجوانب الأكاديمية، والذاكرة، والقدرات المكانية الفائقة، والظواهر اللغوية.

وتعتبر ثمانينات القرن الماضي بداية بلورة هذا المفهوم في ضوء عدة معايير وردت في القاموس الإحصائي لتشخيص الأمراض العقلية أهمها ظهور العوارض في الثلاثين شهرًا الأولى من عمر الطفل؛ حيث تتضمنت هذه العوارض ثلاث خصائص أساسية هي: القصور في التواصل الاجتماعي، واللغوي والمحادثة، ووجود أنماط متكررة وثابتة من السلوك.

ومنذ ذلك الوقت فقد تعددت الدراسات حول اضطراب التوحد واختلفت الاتجاهات العلمية والنظرية التي تحاول تفسيره على أنه اضطراب في النمو العصبي يؤثر على التطور في ثلاثة مجالات أساسية هي: التواصل، المهارات الاجتماعية، والتخيل، والانغلاق على الذات منذ الشهورالأولي أو سنوات الولادة الأولى؛

حيث يعجز الطفل حديث الولادة عن التواصل مع الآخرين، وقد ينجح في عمل علاقات بسيطة وسريعة ورمزية مع أجزاء الأشياء المادية، وبالتالي يعاني من اضطرابات لغوية واجتماعية ومعرفية، ومخاطر استيراد الأفكار والمناهج والمشكلات، وينظر إلى التوحد على أنه إعاقة نمائية متداخلة ومتشعبة ومعقدة تظهر أعراضها خلال الشهور الأولي من عمر الطفل، والتي تبلغ ستة وثلاثين شهرا؛ نتيجة حدوث عطب أو خلل في الجهاز العصبي لدى الطفل يؤثر هذا الخلل على جوانب متعددة لديه مثل الإدراك والتفاعل الاجتماعي ومهارات اللعب وغيرها .

وقد لاحظ العلماء خلال السنوات والعقود الأخيرة بعض المؤشرات الخطيرة التي تتمثل في ارتفاع معدلات الإصابة بالتوحد لأسباب عجز العلماء عن تبريرها؛ فأصبح هناك ضرورة إلى إجراء كثير من البحوث والدراسات لرصد هذه الطفرة؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الإصابة قد زادت بصورة أزعجت العلماء؛ حيث تراوحت بين 10% : 17% عما كانت عليه سابقا، ولا يوجد تفسير منطقي لهذه الزيادة المطردة في دول العالم ، خاصة في السنوات الأخيرة.

وقد رصدت إدارة كاليفورنيا للاضطرابات النمائية California Department of Developmental Disabilities تقريرًا جاء فيه : أن عدد الأطفال التوحديين قد ارتفع بنسبة 272% في الإحدى عشرة سنة الأخيرة، وأشارت بعض الإحصاءات والدراسات إلى أن فردًا واحدا من بين كل مائة وستة وستين فردًا يولد مصابًا بالتوحد، وهو ما يعادل 60 في كل10000 فرد، وتجدر الإشارة إلى ارتفاع نسبة الإصابة بهذا المرض بين الذكور أكثر من الإناث.

حيث ترتفع بمقدار أربعة أضعاف عن الإناث، كما جاء في كثير من التقديرات أن فردًا من بين كل عشرين فرد يحتك احتكاكا مباشرًا بأحد الأشخاص التوحديين، كما ترتفع ﻨﺴﺒﺔ هذه الإعاقة مقارنة بالإعاقات الأخرى؛ حيث ترتفع إﻟﻰ ١١٠ % ﻤﻘﺎﺭﻨﺔ بغيره من الإعاقات المختلفة .

وهناك أعراض عدة للتوحد تختلف من شخص لآخر، فقد تظهر بعض هذه الأعراض وقد لا تظهر، كما تختلف حدة هذه الأعراض من شخص لآخر، وهناك تصنيفات كثيرة ظهرت في عدد من الدراسات والأدبيات التربوية منها :التصنيف وفقا للأداء منها : (فئة فائق الأداء) : حيث يظهر التوحدي أكبر قدر ممكن من التفاعل الوظيفي ويتميز بالانسحاب مع خلط اللغة التواصلية بألفاظ غير مفهومة، مع امتلاك بعض المهارات العقلية ، والحركية ، والإدراكية التي نجعله قريب الشبه بشكل عام من الطفل العادي، أما (فئة متوسط الأداء) : فهي تتميز بدرجة انسحاب أشد من النمط الأول.

كما تتطور اللغة غير التواصلية لحد متوسط، أما (فئة منخفض الأداء) ففيها يكون التوحدي عاجزًا عن إظهار أي نوع من أنواع النشاط العقلي أو الحركي أو الإدراكي المناسب لعمره فضلًا عن أن مستوى ذكائه ضعيف جدًا .

ولعل أهم ما ينبغي الإشارة إليه أننا ما زلنا في مجتمعاتنا العربية نفتقد إلى الدراسات التربوية التي تستهدف التوحد بمفهوم شامل، كذلك لا توجد جامعات لديها تخصصات دقيقة في هذا الاضطراب، ولا توجد وسائل وأدوات تشخيص دقيقة وواضحة، فالأسرة التي لديها طفل توحدي تعاني من مشكلات التشخيص والذي يختلط بكثير من الإعاقات.

كذلك هناك ندرة في البرامج الأكاديمية التي تتوافق مع هذه الفئة من الطلاب باستثناء دراسة عربية واحدة صممت برنامجًا أكاديميًا وحيدًا لتعليم القراءة والكتابة للطفل التوحدي باستخدام استراتيجيات التعلم البصري والخرائط العنكبوتية.

ومع ذلك لم ينشر ولم تتحقق الاستفادة منه؛ لذا لابد أن ننفتح على الدراسات والأساليب المختلفة لهذه الفئة من الأطفال ونعمل على إعادة تأهيلهم، فهناك كثير منهم تكون نسبة ذكائه طبيعية أو فوق الطبيعية مما يؤكد على أهمية انخراط هذه الفئة في المجتمع.